هل فقدت الولايات المتحدة القدرة على القيادة؟

هل فقدت الولايات المتحدة القدرة على القيادة؟

Aug 25 2021

هل ما تزال الولايات المتحدة قادرة على قيادة العالم؟ وهل تتصرف فعلا انطلاقا من أنها قائدة المعسكر الديمقراطي في مواجهة معسكر الحكومات التسلطية الاستبدادية؟ أم إنها تغلِّب اعتبارات مصالحها القومية فقط؟ هذا سؤال يطرح نفسه بقوة، وسط موجة الانتقادات الناتجة عن تخبط واشنطن في إدارة انسحابها من أفغانستان، بل إن الولايات المتحدة قد تقع في فوضى سياسية عارمة، إذا مات بايدن، أو عجز عن ممارسة سلطاته بنفسه، خلال فترته الرئاسية الحالية.

الأسئلة في حقيقة الأمر، تتجاوز أفغانستان، وتصل إلى إعادة تقييم دور أمريكا.. من بحر الصين الشرقي وتايوان، إلى كوبا وحدود المكسيك، مرورا بكوريا الشمالية وأفغانستان وإيران والعراق والخليج وفلسطين والقرن الافريقي وشبه جزيرة القرم، فقدت السياسة الأمريكية مصداقيتها، حتى بين حلفائها في حلف الأطلنطي، العالم لا يبدو مكانا آمنا، والولايات المتحدة لا تبدو قادرة على القيادة، وهو ما يعيد إلى الأذهان أحداثا فارقة في تاريخ البشرية مثل سقوط الإمبراطورية العثمانية، “رجل أوروبا المريض” بعد الحرب العالمية الأولى، وسقوط الإمبراطورية البريطانية، “التي لا تغرب عنها الشمس”، بعد حرب السويس. فهل أصبحت أمريكا هي رجل العالم المريض، الذي يجري السباق على توزيع ممتلكاته ومناطق نفوذه بين القوى الصاعدة والقوى الرئيسية في العالم؟ أم أنها ما تزال تدخر من مقومات القوة ما سوف يمكنها من الاستمرار في مقعد القيادة وحدها؟

ما تأثير ذلك على الشرق الأوسط؟

عندما تمرض القوة الأعظم في العالم، فإنها تعجز عن المحافظة على نفوذها وراء الحدود، فيؤدي ذلك إلى نشوء فراغ، تتسابق قوى محلية أو إقليمية أو دولية لملئه. خلال انهيار الإمبراطورية العثمانية تقدمت فرنسا وبريطانيا لملء الفراغ، وتوزيع أملاك الرجل المريض بينهما. ومن ثم كان العرب على موعد مع سايكس – بيكو عام 1916. وخلال انهيار الإمبراطورية البريطانية، ورثت الولايات المتحدة نفوذها سلميا، ثم وقع العرب بين رحى حرب باردة إقليمية، كان طرفاها جمال عبد الناصر حليف الاتحاد السوفييتي، والملك سعود حليف الولايات المتحدة.

الآن، قد يكون العالم العربي على موعد مع سايكس – بيكو جديدة، حيث تتسابق على النفوذ وملء الفراغ روسيا وتركيا وإيران، ومعها إسرائيل، التي تقيم منذ العام الماضي حلفا عربيا بقيادتها. وربما لا يفوت القارئ الذكي المتابع لمنصات التواصل الاجتماعي باللغة العربية، أن مغردين وصحافيين محسوبين على حكام عرب اشتدت، في الآونة الأخيرة، انتقاداتهم للولايات المتحدة، لأنها لا تتخذ موقفا حازما ضد إيران. ويعتبر انتقاد “الرجل المريض” ثم الثورة عليه لحساب السيد الجديد، علامة من علامات فترات انتقال النفوذ في العالم العربي، كما حدث من قبل في الثورة على الأتراك لصالح الإنكليز والفرنسيين.

ماذا فعل بايدن بالديمقراطية؟

خاض الرئيس الأمريكي الحالي جوزيف بايدن معركته إلى البيت الأبيض على أساس أن الديمقراطية هي رأس الرمح لسياسته الداخلية والخارجية. وأكد ذلك في التوجيه الاستراتيجي المؤقت الذي أصدره في مارس الماضي قائلا، إن مهمة إدارته تبدأ من “إعادة تفعيل ميزتنا الأساسية وهي الديمقراطية”… “أنا أعتقد بقوة أن الديمقراطية هي مفتاح الحرية والرخاء والسلام والكرامة.

ويجب علينا أن نثبت بوضوح لا يدع مجالا للشك، أن الديمقراطية ما تزال قادرة على العطاء لشعبنا وللشعوب حول العالم”. فكم من الإجراءات اتخذ بايدن لتحقيق ذلك منذ يناير الماضي؟ وهل يعتبر موقف الولايات المتحدة في أفغانستان دفاعا عن الديمقراطية؟ وهل يمثل تجاهل الإدارة الأمريكية للتشاور الكافي مع شركاء السلاح سلوكا ديمقراطيا؟ أم أن القرار جاء استجابة لمصالح الأمن القومي الأمريكي، بالمعنى الضيق، ولا علاقة له بالقيم الديمقراطية؟ إن الديمقراطية هي كل لا يتجزأ، وإذا كان بايدن قد أعلن التزامه بها طريقا لحكمه، ورأس الرمح لسياسته الداخلية والخارجية، فإن هذا الالتزام أصبح الآن موضعا للشك، الذي حدث هو أن بايدن استعار مضمون شعار ترامب، الذي برر به انسحاب الولايات المتحدة من العالم، وأعاد صياغته بكلمة أخرى. بايدن قال إنه لن يستمر في “حروب أبدية”، وقبله قال ترامب إنه لن يستمر في “حروب لا نهاية لها”.
المضمون واحد، وهو يُغَلِّب المصلحة القومية الأنانية. تغليب المصلحة القومية، والبعد عن الالتزام بالنظام الدولي المتعدد الأطراف، وتأسيس نهج القيادة المنفردة للعالم عبّر عن نفسه في الكثير من الظواهر، أخطرها ظاهرة غرور القوة، التي توحشت في واشنطن منذ انتصارها في الحرب الباردة وإسقاط الاتحاد السوفييتي.

الإفراط في استخدام القوة الغاشمة

خلال الـ 30 عاما التالية لنهاية الحرب الباردة تورطت الولايات المتحدة في خمسة حروب رئيسية خارج حدودها، هي حرب الكويت (1990- 1991)، وحروب البلقان من البوسنة إلى كوسوفو (1992- 1999)، وحرب أفغانستان (2001- 2021) وحرب العراق (2003- 2011) وحرب داعش (2014- 2018) إضافة إلى الحرب العالمية على الإرهاب التي ما تزال مستمرة حتى الآن.

هذه الحروب كانت تعكس شهوة استخدام القوة الغاشمة لفرض سيطرة أمريكا على العالم، وهو نهج يختلف عما كانت عليه علاقة الولايات المتحدة بالعالم خلال الـ45 عاما التالية للحرب العالمية الثانية. ذلك أنها بين نهاية الحرب الثانية، حتى انتصارها في الحرب الباردة شاركت في حربين رئيسيتين فقط هما الحرب الكورية (1950- 1953) وحرب فيتنام (1955- 1975)، اللتين ارتبطت كل منهما بضبط توازنات ما بعد الحرب العالمية الثانية. أما بعد الحرب الباردة فإن الحروب التي تورطت فيها كان هدفها هو تأكيد سيطرة قطب واحد فقط على مصير العالم. حروب ما بعد الحرب الباردة، التي خاضتها أمريكا أسفرت عن أربع ظواهر مهمة. الأولى أنها أوجدت نطاقا للفساد داخل المؤسسة العسكرية الأمريكية، من خلال تداخل مصالح شركات السلاح والموردين مع سياسات البنتاغون. والثانية أنها أنهكت القوة الأمريكية الشاملة، بما سمح للصين بتحقيق تقدم استراتيجي سريع، وساعد روسيا على استعادة جزء مهم من نفوذها في وسط آسيا وشرق أوروبا.

والثالثة أنها أسهمت في إرسال إشارات قوية إلى عواصم أوروبية مثل باريس وبرلين، بضرورة تطوير سياسة دفاعية وخارجية مستقلة للاتحاد الأوروبي. الظاهرة الرابعة هي أن الإنهاك الذي سببته الحروب التالية للحرب الباردة امتد إلى البنية الأساسية البشرية والمادية، وهو ما دعا بايدن أخيرا إلى إعلان مبادرة بتكلفة 3.2 تريليون دولار لإعادة بناء أمريكا واستعادة مكانتها الاقتصادية والعسكرية المهددة. ومن المفارقات المثيرة للسخرية هنا أن الصين ترى أن المبادرة هي فرصة عظيمة لها، وتتوقع أن الولايات المتحدة ستكون في حاجة للمزيد من الواردات من الصين، وإعادة تشبيك سلاسل الصناعة والتجارة بين الشركات الأمريكية والصينية، لتنفيذ عملية البناء والتجديد التكنولوجي.

الرئيس الأمريكي جو بايدن، منذ تولى مهام منصبه، لم يجد وقتا للبدء في تنفيذ استراتيجيه الأمن القومي الجديدة، وإنما وجد نفسه أمام اختبارات قاسية في الداخل والخارج، ابتلعت مجهوده الرئيسي. فعلى الصعيد الداخلي استحوذت أربع قضايا رئيسية على اهتمامات البيت الأبيض، هي مكافحة وباء كوفيد – 19، والعمل على إنهاض الاقتصاد، ومحاولة إيجاد حل لتدفق اللاجئين عبر حدود المكسيك، ومحاولة احتواء الأزمة العرقية الناجمة عن مقتل جورج فلويد. وعلى الصعيد الخارجي فإن المجهود الرئيسي للدبلوماسية والسياسة الدفاعية تم استنزافه في مفاوضات العودة للاتفاق النووي الإيراني التي لم تثمر شيئا حتى الآن، وتأمين القوات الأمريكية في العراق، وحرب غزة والأوضاع في الضفة الغربية، وقضايا الصراع في القرن الافريقي وأفغانستان، ومحاولة إقناع المانيا بالعدول عن خط الغاز الروسي نوردستريم -2.

فكأنما عاش بايدن خلال الأشهر الماضية مقطعا من أغنية قديمة من أغاني جون لينون يقول فيها: “الحياة هي تلك الأشياء التي تحدث لك، بينما أنت مشغول بالتخطيط لأشياء أخرى”. بايدن غرق في مسائل طارئة صرفته عن هدف توسيع الدور العالمي للولايات المتحدة، أو إعادة بناء التحالف الديمقراطي العالمي، أو العمل لمواجهة الصين وروسيا، باعتبارهما الخصمين الأشد خطورة. وبدلا من ذلك انشغل بمتابعة جولات مكوكية لوزيري الخارجية والدفاع، ومدير المخابرات المركزية إلى منطقة الشرق الأوسط، ثم مأساة الانسحاب من أفغانستان.
وقد تذكر بايدن أخيرا أن “الديمقراطية” هي رأس الرمح لسياسته، فدعا لعقد قمة عالمية للدول الديمقراطية قبل نهاية العام الحالي، وهي دعوة ما تزال غامضة، لكنها ضرورية. في حال انعقادها سيكون بايدن في خندق الدفاع لا محالة، وليس في خندق الهجوم. وسيكون السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: هل ما تزال الولايات المتحدة قادرة فعلا على قيادة العالم، أم أنها أصبحت “رجل العالم المريض”؟

كاتب مصري إبراهیم انوار

المقال يعبر عن رأي الكاتب

515