أصل اللُغات

أصل اللُغات

May 17 2021

أصل اللُغات
محمد رجب رشيد

قبل ظهور الأبجدية كانت اللُغات صوتاً فقط دون حروف، ثمّ أُلحِقت بالصوت الحروف المنقوشة فالمكتوبة، والصوت يُستقبل من قِبَل جهاز السمع الذي بدوره ينقله إلى الدماغ. السمع والبصر أهم حاستين من حواس الإنسان، بفقدان أحدهما يصبح الشخص معاقاً، أمّا الحواس الأخرى فعلى الرغم من أهميتها فإنّ فقدانها لا يتسبّب بالإعاقة.

والسمع أهم من البصر، في القرآن الكريم جاء السمع قبل البصر في جميع المواضع التي وردت فيها الكلمتان. غياب البصر لا يعني غياب البصيرة، بل إنّ مُعاقي البصر يتميّزون بقدرات خارقة ويعيشون حياة شبه طبيعية، يمكنهم التواصل مع الآخرين والتعلُّم والإبداع أيضاً في حال توفر الدعم والرعاية وإتاحة الفرص، وهم كُثُر (هوميروس، أبو العلاء المعرّي، هيلين كيلِر، لويس برايل مخترع أبجدية المكفوفين، طه حسين، سيد مكاوي، إمرأه كفيفة من قريتنا مارست مهنة الداية طوال حياتها)، أمّا مُعاق السمع فيتعذّر عليه تعلُّم اللغات والكتابة والقراءة، مِمّا يعني حُرمانه من التواصل مع الآخرين، يُبصرهم دون القدرة على التفاهم معهم، يرى الأشياء حوله دون معرفة أسمائها وماهيّتها.

من هنا تأتي أهميّة اللغات في حياة الإنسان الفرد والجماعات والشعوب والأمم للتواصل والتفاعل والتفاهم فيما بينها. فما هي اللغات؟ وما أهميتها؟ وما هو أصلها؟ وكيف تطوّرت ونشأت؟

تُعرّف اللُغات على أنّها نسق من العلامات والرموز لها أشكال معينة يمكن النطق بها، وتركيب الكلمات والجمل منها للتواصل والتفاهم والتفاعل مع الآخرين، وتعتبر الوسيلة المُثلى للتعبير عن الأفكار والمشاعر والمعتقدات الخاصة بكل شخص لإظهارها والإفصاح عنها للأخرين. ترتبط اللغة بالفِكر ارتباطاً وثيقاً، بدونها يتوقّف النشاط المعرفي للإنسان تماماً، فالأفكار تُصاغ في قالب لغوي من خلالها فقط، مُشكِّلةٍ بذلك أداةٍ من أدوات المعرفة ونقلها من جيل إلى آخر.

إنّ اللغة ليست مجرّد حروف تُنطق بها، بل هي إحدى أهم الخصائص التي تتميّز بها الجماعات عن بعضها. وتبرز أهميتها بصورة جليّة في ربط الأفراد بأمتهم وحضارتهم، فهي مفتاح البوابة التي من خلالها يتِمُّ تبادل المعارف بين الشعوب والأمم في كافة أنحاء المعمورة. لا نبالِغ إذا وصفنا اختراع الأبجدية -رغم جهلنا به- بالقفزة السريعة في تطور الإنسانية والتي لا تقلُّ أهميته عن اختراع الطابعة في انتشار المعرفة وحفظها.

ليس هناك معيار موحّد للتفاضل بين اللغات، كلُّ جماعة ترى في لغتها من الجَمال ما لا يراه الآخرون، وما تسمّى بتفوّق اللغات أو ثرائها ما هما إلّا انعكاسٌ لتفوّق الناطقين بها وثراء ثقافتهم وتراثهم، بمعنى أنّ كل لغة تُصبغ بصُبغة الناطقين بها، فاللغة الإنكليزية هي اللغة العلمية الأولى على مستوى العالم كونها اللغة الرسمية لكل من بريطانيا وأمريكا المتفوقتين في كافة المجالات العلمية، وتأتي بعدها اللغة الألمانية، أمّا اللغة العربية فتكمن أهميتها في كونها لغة القرآن الكريم، ويأتي انتشار اللغة الإسبانية كلُغة رسمية في جميع دول قارة أمريكا الجنوبية -ما عدا البرازيل التي تتكلم البرتغالية- كنتيجة من نتائج استعمار اسبانيا لشعوب تلك الدول قبل استقلالها، وكذلك الأمر بالنسبة لِلُّغة البرتغالية، ولا يختلف الأمر بالنسبة للدول الناطقة باللغة الفرنسية والتي تسمّى بمجموعة الدول الفرانكفونية وتضم بالإضافة إلى فرنسا، بلجيكا، سويسرا، موناكو، بعض الدول الأفريقية التي كانت مستعمرات فرنسية قبل استقلالها.

من البديهي أنّ اللغات لا تُولد مع الإنسان، وإنّما يتعلّمها من الآخرين المحيطين به، لو عزلنا طفلاً عن محيطه البشري بالتأكيد لن يتعلَّم أي لغة، فقط سيتعلم تقليد أصوات الحيوانات والطيور والظواهر الطبيعية المحيطة به. هذه الحقيقة تضعنا أمام تساؤل مهم جداً عن هوية أول لغة في حياة الإنسانية وعمرها؟

إنّ أصل اللغة التي تكلّم بها الإنسان الأول وعمرها وهويتها مازال لُغزاً غير قابلاً للحل، وقد يبقى كذلك إلى الأبد، وكل ما قيل سابقاً ويُقال الآن عن العبرية، العربية، السومرية أو البابلية كأول لغة تكلّم بها الإنسان ما هو إلّا مجرّد أمنيات على خلفية عنصرية أو فرضيات تفتقر إلى الأدلِّة والبراهين.

إنّ بحث العلماء عن أصل اللغات منذ قرون لم يُتوّج برؤية موحّدة حولها لانعدام الدليل الواضح والمباشر عليها، ولاستحالة العثور على اللغات في شكل أحافير كما هو حال الأشياء الملموسة الأخرى، حتّى ذهب بعض الباحثين إلى اعتبار اللُغات غير قابلة للدراسة الجادّة لمحدودية الأدِلّة التجريبية عليها، ولكن هذا لا ينفي تطور اللغات عن لغة مجهولة كانت هي الأصل واللغة الأُم لجميع اللغات التي جاءت بعدها.

إنّ تطوُّر اللغات يبدأ بعملية التغيير التدريجي البطيء فيها خلال آلاف السنين، حيث تنقسم اللغة الأم إلى لهجات متعدِّدة بسبب الهجرات البعيدة وانقطاع التواصل مع الموطن الأصلي، ثم تبدأ هذه اللهجات بالتمايُز شيئاً فشيئاً حتى تتحوّل إلى لغات جديدة، تتفرّع عنها لهجات أخرى، وهكذا تنشأ اللغات. وما يُعزِّز هذه الفرضية تعدُّد اللهجات ضمن اللغه الواحدة حالياً، ووجود مفردات وحروف تشترك بها عِدّة لغات. ومن المؤكَّد أنّ أي لغة من اللغات الحالية لن تكون على شكلها الحالي بعد آلاف السنين، ولا نملك أي تصوُّر لما ستكون عليه حينها.

وفي الخِتام نورِد بعض الحقائق عن اللغات: توجد حالياً أكثر من ستة آلاف لغة منطوقة في العالم، ثلثها في افريقيا، عدد اللغات التي تتكلم بها أكثر من مليون شخص حوالي مائة لغة، اللغة الإنكليزية من اللغات الجرمانية بالإضافة إلى الألمانية، عندما تندثر اللغات تختفي معها ثقافات وكنوز من المعرفة، والاندثار يبدأ عندما يتراجع عدد المتكلمين بها -قسراً أو طوعاً- مع مرور الزمن، كاللغة الهيروغليفية (لغة مصر القديمة)، اللغة البابلية، اللغة السومرية، اللغة الأكادية، لغة الأيك (سكان آلاسكا الأصليين) وغيرها، هناك أكثر من خمسمائة لغة محلِّية مهدّدة بالإندثار في مختلف أنحاء العالم، خلال القرنين الماضيين اندثرت حوالي مائتا لغة محلية في أستراليا وحدها.

وماذا عن اللغة الكوردية؟ اللغة الكوردية تُعَدُّ من اللغات الهندوأوربية، لها ثلاث لهجات رئيسية هي الكرمانجية، السورانية، الزازائية. وعلى الرغم من أنِّها لم تكن اللغة الرسمية للدول منذ آلاف السنين فقد حافظت على نفسها من الاندثار، ولكنها فقدت أبجديتها القديمة. ألا يدعونا هذا الأمر إلى ضرورة إنشاء مجمع لِلُّغة الكوردية؟ بهدف استخراج لغة موحّدة من اللهجات الحالية، بحيث تكون اللغة الرسمية للدوائر الحكومية والمؤسسات والتعليمية، بغية الحفاظ عليها وعلى الثقافة الكوردية وتراثها من الضياع.


المقال يعبر عن رأي الكاتب

830