طرائف سوداء..راتب شعبو

طرائف سوداء..راتب شعبو

May 11 2021

آرك نيوز..طرائف سوداء..راتب شعبو
يعرف السوريون، بكل تنوعاتهم السياسية وغير السياسية، أنه لم يكن للانتخابات الرئاسية في سورية (ولا لغيرها من الانتخابات السورية بعد 1970) أي معنى ديمقراطي، ويدركون أن ما يُصرف عليها من الموازنة هو هدر محض. وكما يعرف السوريون هذه الحقيقة، كذلك تعرفها الطغمة الأسدية، ويعرفها حلفاؤها قبل أعدائها. مع ذلك تجرى الانتخابات لكي تعرض علينا بعض الطرائف السوداء.

الطرفة السوداء تقول إن الطغمة التي تقول “الأسد أو نحرق البلد”، هذا القول الذي سبق له أن صعق العالم بوقاحته، حتى جعله أحد الصحفيين الأميركيين عنوانًا لكتابه عن سورية، جاهزةٌ بنفس المستوى من “الثقة بالنفس” لأن تكون ديمقراطية وأن تعود إلى الشعب كي يختار بين ثلاثة مرشحين، بينهم هذا الذي تُحرق البلاد دونه.

قد يعترض أحد بالقول إن شعار حرق البلد ليس شعار الطغمة، بل هو مجرد كلام “جاهلي” لفئة من الأنصار المتحمسين للأسد أو فئة من الشبيحة، ولا ينبغي بالتالي أخذه على الطغمة. لكن على من يعترض أن يفسّر سبب بقاء هذا الشعار على الجدران في كل مكان، فيما تمحى بهوس الكتابات التي تعترض على الأسد. والأهم أن عليه أن يرى التنفيذ الفعلي للشعار على يد نخبة الحكم أو الطغمة نفسها.

حين رفضت غالبية السوريين بقاء الأسد، مغامرين بأن تقوم الطغمة بحرق البلد، لم تكتف الطغمة بأن أقدمت بالفعل على حرق البلد، بل تجاوزت المفاضلة التي يتضمنها شعارها المذكور، لتجمع بين حرق البلد وبقاء الأسد. على هذا، يكون البرنامج الانتخابي للأسد هو بلاد محروقة. لكن الحديث عن برامج انتخابية كما يفهمها الناس، لا محلّ له في السياق السوري. ففي انتخابات 2007، وقبل أن يتحول حرق البلد من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، اختار الشعب السوري بشار الأسد لسببٍ يعلو فوق السياسة وفوق الأحزاب والبرامج، لقد اختاره السوريون لسبب قاهر هو الحبّ، فقد ملأت كلمة “منحبك” الشوارع والساحات والشاشات. ولا شك في أن الشعب حين يحبّ أحدًا لن يسأله عن برنامجه الانتخابي. الحبّ لا تفسير له ولا أسباب، ولذلك حين يدخل الحب تخرج السياسة وتصبح لاغية. في انتخابات 2014 “التعددية” كان الشعار الانتخابي كلمة واحدة “سوا”، الشعب والمحبوب باتوا حينها أمام “مؤامرة” يجب أن يدحروها بالحب “سوا”. عبقرية جماعة الحكم الأسدي يمكن أن تتفتق عن شعار للانتخابات المزمعة في 26 الشهر الجاري، يقول مثلًا: ندمرها ونبنيها معًا، أو لن يستطيع أن يعمّرها سوى من دمّرها.

هذه ليست مسرحية، فلشخصيات المسرحية وجمهورها واقع يعودون إليه بعد العرض، فيما هذه الانتخابات هي الواقع السوري الذي دفع السوريون دماءهم وأرواحهم وأرزاقهم كي يخرجوا منه.

الطرفة السوداء الثانية أن الطغمة التي لم تتوان عن حرق البلد وإعادته عقودًا إلى الخلف على كل المستويات، واتهام كل من لا “يحبّه” بالخيانة الوطنية التي تسمح أو توجب قتله في الساحات أو تحت الأنقاض أو في السجون، لا تتجرأ على أن تعلن صراحة أنها تحكم بالحديد والنار، وبالقهر والتسلط. فهي تخشى أن تعلن هذا الواقع البسيط والواضح. تتجرأ على تدمير بلدٍ، وتخشى أن تعلن أنها تفرض نفسها بالقوة على الناس. قد تجد ذا مزاج ساخر يقول من الأفضل إجراء هذه الانتخابات مهما يكن، فقد يحصل السوريون بمناسبتها على منحة مادية وعلى عفو عام… الخ. وقد تجد أيضًا على ضفة نظام الأسد “عقلانيًا” ما أو واقعيًا يحاجّ بالطريقة التالية:

وهل يوجد في المعارضة من هو أفضل من بشار الأسد؟! ويتبع ذلك استطراد بسرد نقائص أو ربما فضائح فلان وفلانة، ممن برزت أسماؤهم وأسماؤهن في صفوف المعارضة في السنوات الماضية. ثم، بعد مساواة الناس بالسوء، يضيف هذا “العقلاني” امتيازًا يتمتع به الوريث الجمهوري، وهو أنه يستطيع، لأسباب عديدة معروفة، منها سيطرته على الجيش والأمن، أن يحافظ على جهاز الدولة من التفكك. وعادة ما ينتهي أو يبدأ هذا النوع من المحاجّة بجملة “لنكن واقعيين”!

في مثل هذه المحاجّة التي كان وما زال لها وجود ملحوظ في الوسط الموالي أو اليائس القانع بالطغمة الأسدية، يوجد خلط بين ما هو شخصي وما هو سياسي. ليست السمات الشخصية للرئيس هي الحاسمة في النظام السياسي إلا حين يكون الرئيس حاكمًا بأمره دون أي قيود. قد يتفوق بشار الأسد بالمواصفات الشخصية على كثير من الأفراد المعارضين للنظام، غير أن الحقيقة الثابتة هي أنه مسؤول عن دمار البلاد، لعدم وجود نظام سياسي يقوم على آليات محددة في الحكم لا تسمح للرئيس بالحكم المطلق، وبأن يسخّر آلة الدولة ومقدراتها للاحتفاظ بالسلطة. ما يطالب به السوريون هو تغير نظام الحكم أو عقلنته بحيث لا يمكن للرئيس أن يكون “مالكًا” للدولة، ثم مالكًا للبلد وقادرًا على حرقها. قد تجد بين معارضي النظام من يعترضون على شخص بشار الأسد، هذا كلام لا يؤخذ به، فهو إما كلام انفعالي ولا يشكل حقيقة ما يريده السوريون، وإما كلام يقوم على فكرة أن تغيير شخص الرئيس يقود إلى تغيير النظام.

فكرة تغيير النظام السياسي وتحرير الدولة من السيطرة المؤبدة لنخبة الحكم، وجعل مرجعية الشرعية السياسية هي الجدوى والإنجاز، هذه الفكرة تمتلك قيمتها من انعكاسها على حياة البلد والناس، وليس من جودة أو سوء الشخص الذي يطرحها. إذا كان من اقترح فكرة نصب كاميرات في الشوارع مجرمًا، يبقى للكاميرات دور مهم في الحد من الجريمة.

هذا فضلًا عن أن استمرار طغمة الأسد في السيطرة على الدولة السورية دفعت ملايين السوريين إلى الكفر بالدولة نفسها، وهذا يكافئ تفكك الدولة، إن لم يكن أكثر سوءًا.

الطرفة السوداء الأخرى هي حقيقة حاكم أوصل بلاده إلى الحضيض، ثم يجد لديه الاستعداد لاقتراح نفسه رئيسًا مرة أخرى، لكن الأكثر سوادًا وألمًا في الواقع هو أن يخرج بعض السوريين للاحتفاء به، بالرغم من أنهم يعيشون، في ظل حكمه، ذلّ الجوع والحاجة والهوان الوطني وانسداد الأفق!


المقال يعبر عن رأي الكاتب

648