ما الذي يدفع معارضاً سورياً أصبح صوت المعذبين في سجون الأسد للعودة إلى جلاديه في دمشق؟

ما الذي يدفع معارضاً سورياً أصبح صوت المعذبين في سجون الأسد للعودة إلى جلاديه في دمشق؟

Mar 05 2021

ارك نيوز.... خصصت صحيفة “واشنطن بوست” محورا لمناقشة اختفاء مازن الحمادة، الناجي من “مسالخ” بشار الأسد وعودته إلى سوريا رغم تحذير شقيقته له بعدم العودة. وكان آخر تواصل بينهما هو طلبه منها “ادعيلنا” وأن “ما بصير إلا اللي كاتبه الله”.

وفي التقرير الطويل تقول ليز سلاي، إن مازن حمادة تحول بوجهه النحيل ودموعه إلى صورة عن معاناة السجناء في سجون نظام بشار الأسد.

وبعد هروبه من سوريا إلى هولندا، سافر بشكل مستمر وشارك تجربته مع الجماهير في الولايات المتحدة وأوروبا، وقصّ عليهم معاناته في سجون الأسد. ثم اختفى بشكل غامض وربما انتحاري قبل عام تقريبا وعاد إلى سوريا مخاطرا بحياته وإمكانية تعرضه لوحشية الحكومة التي شجبها بقوة.

وترك حمادة عائلته وأصدقاءه يتساءلون عن سبب عودته إلى جلاديه وما يخشون أنه كابوس جديد في سجون النظام السوري. وتساءلوا إن كانت تصرفاته الغريبة دليلا على صدمات دفعته لاتخاذ قرار غير منطقي، وهل تم جره إلى سوريا من قبل الداعمين للحكومة من أجل إسكاته، حسبما يشك المقربون منه؟ أم أنه لم يعد يطيق العيش في الغرب وكان مستعدا للمخاطرة بحياته؟ أم أنه شعر بخيانة العالم له وعدم مبالاته بمأزق بلاده وفشله في وقف حمام الدم فيها؟ والإجابة على هذه الأسئلة تذهب إلى قلب المأساة في سوريا والعذاب الذي حل بها بعد ثورات الربيع العربي ومطالبات التغيير السلمية التي تم قمعها بالقوة الغاشمة.

وتظهر مقابلات مع أصدقائه ومعارفه صورة عن رجل لم يستطع التخلص من الرعب الذي عاشه. فمن الحماسة التي رافقت الثورات العربية والأمل بالتغيير والتظاهرات التي دعت لإسقاط نظام بشار الأسد الذي حكمت عائلته سوريا منذ عقود، وهو ما دفع الموظف في قطاع النفط في سوريا، البالغ من العمر 33 عاما للانضمام إلى التظاهرات.

وفي مقابلة مع سارة أفشر التي أعدت عام 2016 فيلم “المختفون السوريون” قال حمادة: “عندما ترى المظاهرات يطير قلبك من الفرح، وأقسم أن أحدا لم يصدق هذا”. ونظرا لنشاطاته كمواطن صحافي تحدث للمؤسسات الإعلامية الأجنبية، أثار حمادة انتباه السلطات السورية التي أصدرت تعليمات لملاحقة أي شخص له علاقة بالثورة، وتم اعتقال عشرات الآلاف ممن شاركوا في التظاهرات ووضعوا في المعتقلات كي يتم إطفاء نار الثورة التي اشتعلت في قلوبهم بعد سنوات من الخنوع.

واعتُقل حمادة مرتين في محافظته دير الزور قبل انتقاله عام 2012 إلى دمشق، حيث اعتقل مرة أخرى ونُقل إلى مقرات المخابرات في حي المزة حيث بدأ الكابوس. وفي كل أنحاء العالم العربي، قُمعت الثورات وسُجن الناشطون وعذبوا، وعادت أجهزة القمع للسيطرة من جديد. ولكن القمع لا يقارن بما جرى في سوريا التي مارس فيها نظام الأسد أكثر الثورات المضادة دموية في القرن الحادي والعشرين. فقد حصدت قوات الأمن التابعة للنظام بالرصاص، أرواح الآلاف من المتظاهرين، وعندما حمل المتظاهرون السلاح للدفاع عن أنفسهم، أحضر النظام الدبابات وقصف معاقل المعارضة وحاصر المدن والقرى من أجل تركيع سكانها. وعندما فشل، ألقى البراميل المتفجرة على الأحياء السكنية، واستخدم السلاح الكيماوي عندما لم تنفع البراميل المتفجرة. وتوقفت الأمم المتحدة عن إحصاء الجثث في 2016، حيث كان عدها الأخير هو 400 ألف شخص. وهاجر الملايين إلى الدول المجاورة، فيما ركب مليون سوري القوارب المتداعية واتجهوا عبر البحر المتوسط إلى أوروبا. وكان حمادة واحدا منهم، حيث فر إلى تركيا ثم اليونان وإيطاليا وفرنسا ثم هولندا.

وبعيدا عن عدسات التلفزيون، تم سجن الآلاف وتعذيبهم في “الغولاغ” السوري. ومن بين 145 ألفاً اعتُقلوا حتى أيلول/ سبتمبر 2019، و128 ألفاً اعتقلهم النظام حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان والتي تسجل حالات الاعتقال في داخل سوريا، اختفى منهم 83 ألفاً بدون أثر، وربما ماتوا تحت التعذيب. حيث وصفت “أمنستي انترناشونال” القتل بـ”الجريمة وجرائم ضد الإنسانية” وتمت المصادقة عليها من “مستويات عليا” في الحكومة السورية.

وبعد وصوله إلى هولندا عام 2014 انخرط حمادة بشكل كامل في النشاط من أجل الكشف عن رعب سجون نظام الأسد، وسافر إلى الدول الأوروبية وأمريكا، وقابل المشرعين في الكونغرس وتحدث مع الجنرالات في القيادة المركزية الأمريكية بفلوريدا، والطلاب في جامعة برينستون، والمحققين في مجال انتهاكات حقوق الإنسان وعدد من الصحافيين. ووصف كيف شُبح من معصميه، وكيف تكسرت أضلاعه بسبب قفز الحراس على جسده، وكيف أطفأ المحققون سجائرهم في جسده، واهتز بسبب الصعقات الكهربائية. وعندما وصل إلى الجزء الذي تم فيه وضع عضوه الذكري في كلّاب واغتصب أكثر من مرة بإدخال قضيب حديدي في فتحة الشرج كان يجهش بالبكاء ويُبكي معه الحاضرين.

وعند هذه اللحظة استسلم كما أخبر صحيفة “واشنطن بوست” في 2017، وقال: “عندما بدأوا بشد البرغي اعترفت بكل شيء طلبوا مني الاعتراف به”.

وكان حمادة مصمما على محاسبة النظام السوري على ما فعله به وبغيره ممن ماتوا في أقبية السجون. وقال في الفيلم: “لن أرتاح حتى آخذهم إلى المحكمة. وحتى لو كلفني ذلك حياتي فسألاحقهم وأقدمهم للعدالة مهما كان الأمر”. وأدهش بكاؤه الدائم من عرفوه مثل عمر أبو ليلى الذي يعيش في ألمانيا وتواصل معه عبر منصات التواصل الاجتماعي وشاركا معا في مؤتمر عام 2018، وقال: “أتذكره وهو يبكي على المسرح، وبكى في فترة استراحة القهوة. والشيء الوحيد الذي تلاحظه على مازن هو بكاؤه، فهو يتكلم وعيناه مغرورقتان بالدموع، يتحدث والدموع تتدفق مثل نهر”.

وأخفت الدموع خلفها حالة من عدم الاستقرار العقلي التي كان يعانيها حمادة. فبعيدا عن الناس، كان يعيش في شقة بدون فرش كثير وفّرتها له السلطات الهولندية. وبدأ بدراسة اللغة، ولكنه واجه صعوبات في تعلمها، ولاحظ أصدقاؤه أنه يدخن كثيرا المارجوانا المسموح بها في هولندا لكنها باهظة الثمن. غير أن أصدقاءه حققوا حياة أفضل، فكرم الحمد من دير الزور والذي عانى مثل حمادة، وصل إلى ألمانيا وافتتح تجارة ناجحة وتزوج وسيبدأ هذا الصيف الدراسة بمنحة في جامعة ييل. وقال كرم إنه لم يستطع التغلب على صدمته بدون العلاج النفسي والحبوب المضادة للاكتئاب ومساعدة الأهل والأصدقاء.

وتلقى حمادة علاجا نفسيا في هولندا، لكنه اشتكى لكرم من أن المعالجين النفسيين في الغرب لا يفهمون ما مرّ به السوريون من معاناة. ومع مرور ستة أعوام على خروجه من السجن، لم يكن حمادة قادرا على التخلص من عقدة الناجين التي يعاني منها. وفي آخر لقاء بينهما في برلين، كان حمادة “عصبيا” وظل يتحدث عن السجناء الذين تركهم في السجون وضرورة عمل شيء ما لمساعدتهم، و”كان حزينا وضعيفا من الطريقة التي تحدث فيها وبدا واضحا أن هذا الرجل ضائع” و”تساءلت متى سيقتل هذا الرجل نفسه؟ وشعرت أنه على حافة الانتحار”.

والتقى عمر الشغري، الذي قضى سنوات في سجون الأسد وعُذب قبل هروبه إلى السويد مع حمادة أثناء زيارة قاما بها إلى الولايات المتحدة. ونجح الشغري بالوصول إلى أوروبا عام 2015 وهو في سن العشرين. وتعلم ثلاث لغات، وسيبدأ نهاية العام بالدراسة في جامعة جورج تاون. ويقول الشغري إنه وجد دافعا لبداية حياة جديدة، أما حمادة فيبدو أنه غير قادر على التحرك للأمام. يقول الشغري: “استخدمت صدمتي كقوة دافعة، أما مازن فاستخدمها ليصبح أكثر كآبة”. و”بالنسبة لمازن أصبح كل شيء أسوأ. كان معزولا ووحيدا، عزل نفسه وشعر أن أحدا لا يهتم به”.

ومع تقدم قوات الأسد وسيطرتها على مساحات واسعة من البلاد، بدأ حمادة بالشكوى لأصدقائه أن رواية ما جرى له إلى الغرب كان مضيعة للوقت. ولم تترجم دموعه أمام الحاضرين إلى جهود لتحقيق العدالة للمظلومين. وشعر بالضغط والاستغلال حتى من المنظمات التي دعته للمشاركة في مناسباتها. وبدأ بالشكوى من تقدم الأكراد في سوريا الذين تدعمهم القوات الأمريكية إلى محافظة دير الزور.

وفي شريط فيديو وضعه على صفحته في فيسبوك عام 2017، هاجم السلطات الهولندية لأنها أغلقت حسابه وقطعت الدعم عنه بعدما قبل رواتب متأخرة من الشركة التي عمل فيها في سوريا فيما اعتبرته السلطات خرقا للقواعد المطبقة على اللاجئين. وهاجم حمادة الغرب وأمريكا لإرسالها مقاتلات لضرب المناطق الخاضعة لتنظيم “الدولة”، قائلا: “أريد العودة إلى بلدي، يكفي. حتى لو كانت تعني العودة إلى مناطق النظام، أحسن من العيش هنا.. لا أريد الاندماج… من الأشرف لي أن أموت في بلدي”.

يقول ستيفن راب، الذي عمل سفيرا متجولا في إدارة باراك أوباما من أجل العدالة الجنائية الدولية، إنه التقى مع حمادة ووجد قصته مقنعة وشهق من البكاء لأنها مثيرة. وتم جمع عشرات الآلاف من الوثائق والأدلة، منها 55 ألف صورة لسجناء ماتوا بسبب التعذيب والتجويع هرّبها “قيصر”. وأكثر من 600 ألف وثيقة فيها تفاصيل عن نظام التعذيب في سوريا، منها أمر بالقبض على حمادة في 2012 كما يقول راب.

وقال إن هناك أدلة صلبة ومدعّمة تؤكد جرائم الحرب التي ارتكبها النظام السوري، ولكنك لا ترى تحركا من العالم لإرساله نحو المحكمة رغم الرعب الذي حدث، مضيفا: “من الصعب عدم الشعور بالإحباط في كل يوم”. وكانت إدانة ألمانيا الأسبوع الماضي لمسؤولين في النظام السوري دليلا على تحرك في هذا المجال، لكن من المستبعد تقديم مسؤولين بارزين حتى لو تمت محاسبتهم كما يقول جيفري فيلتمان، مبعوث إدارة دونالد ترامب السابق إلى سوريا. وقال: “يستحق الأسد أن يجُرّ أمام المحكمة في هيغ أو الجنائية الدولية. هل سيحدث هذا؟ لا لن يحدث”، وذلك لأن روسيا حليفة الأسد ستعطل أي تحرك في مجلس الأمن.

وفي الشهر الأخير من عام 2019، وصلت متاعب حمادة المالية ذروتها، ولم يكن قادرا على دفع أجرة شقته، حيث أُخرج منها، واضطر للعيش مع أخته وزوجها اللذين يعيشان في هولندا، مما زاد من مرارته ودفعه للعودة كما يرى صهره عامر العبيد. وقال: “شعر بالخيانة وكان في حالة نفسية سيئة”. وأصبح صداميا ويفتعل المشاكل مع كل من يلتقيه، و”كان يقول: أرى النظام أفضل من أمثالكم” في إشارة للمعارضة، و”وصل إلى نقطة فقد فيها الثقة بالكثير من الناس”.

وقضى حمادة أشهرا مع ابنه عمه زياد في غرب ألمانيا، وظل يحدثه عن العنف الذي تعرض له في السجن. واكتشف زياد حجم الضرر الذي تعرضت له أعضاء حمادة الخاصة، فقد اقترح أن يقدم له فتاة يقيم معها علاقة. وعندما اقترح فتح زجاجة شمبانيا للاحتفال، غضب وكشف له أنه لا يستطيع الزواج وإنجاب أطفال، وأراه ما حدث له في السجن. وقال زياد: “كل الليالي التي قضيناها كان يبكي، وكل ما كان يتحدث عنه هو التعذيب”.

في 22 شباط/ فبراير، أرسل لاجئ سوري في ألمانيا صديقا إلى مطار شونيفلد ببرلين كان مسافرا إلى دمشق مرورا ببيروت، وكان من بين المسافرين حمادة الذي عرفه من منصات التواصل الاجتماعي. وشكك في قيام ناقد شديد للنظام برحلة خطيرة كهذه، وتحدث إلى حمادة الذي راوغ في الإجابة ونفى رحلته إلى سوريا. وقال اللاجئ: “بدا كل جسده منهكا، وبدا حزينا وصحته ليست جيدة، لم يتحدث جيدا، ويمكنكم ملاحظة أنه ليس في وضع جيد”.

وشعر اللاجئ بالقلق، واتصل مع ميسون بيرقدار، الناشطة السورية المقيمة في ألمانيا منذ 27 عاما ولديها معرفة في حل المشاكل. واستطاعت الاتصال مع حمادة عند وصوله إلى بيروت. وأخبر حمادة بيرقدار في المكالمة المسجلة: “ذهبنا إلى أمريكا وأخبرناهم القصة. ذهبنا ألى ألمانيا وأخبرناهم القصة، ذهبنا إلى هولندا وفرنسا وحتى إيطاليا ولكن الناس لم يستمعوا والعالم كله لا يستمع”. واعترف أن وجهته دمشق وأنه تعب من محاولة إقناع العالم بالعمل ضد الأسد، ويريد البحث عن طرق لإنهاء الحرب.

وقال حمادة إنه يريد إخراج الأكراد والأمريكيين من محافظة دير الزور والعمل على إطلاق سراح السجناء السياسيين حتى لو أدى الأمر “للتضحية بنفسي ووقف حمام الدم الجاري”. وناشدته بيرقدار بعدم الذهاب إلى دمشق لأنه سيتعرض للاعتقال والتعذيب، فردّ عليها: “نحن نموت على أية حال”. ولدى عائلته وأصدقائه قناعة أن عودته جاءت من خلال الموالين للنظام. ورغم عدم وجود أدلة، إلا أنهم يتحدثون عن “غياب” مستمر لمقابلة “أصدقاء” لم يسمّهم، وتأكيده أنه تلقى ضمانات بسلامته. وزار حمادة السفارة السورية في برلين 3 مرات قبل مغادرته، حسب إبراهيم أسود خلف الله، صديق العائلة. وأخبره أن المسؤولين أكدوا أن اسمه ليس على أي قائمة مطلوبين.

وفي تقرير قدمته شركة محاماة في لندن لأربع وكالات حقوق إنسان في الأمم المتحدة، اتهمت فيه الحكومة السورية بالتغييب القسري لحمادة. وطلب من الأمم المتحدة تحديد مكانه. ويشير إلى صفحة فيسبوك جاء فيها أن امرأة من السفارة السورية رافقت حمادة إلى مطار برلين. ولو صحّ تورط مسؤولين سوريين في اختفاء حمادة، فإنهم يواجهون تهم الاختطاف حسبما يقول توبي كادمان، من شركة كورنيكا 37 القانونية في لندن. وانتشرت شائعات حول سجن بل ووفاة حمادة، لكن لم يتم التأكد منها كما يقول معاذ مصطفى، من قوة المهام السورية الطارئة في واشنطن، التي نظمت رحلة حمادة إلى العاصمة الأمريكية. لكنه يعتقد أنه تم جرّ حمادة إلى سوريا بوعود عدم التعرض له وتم سجنه.

هل كان واعيا لما سيحدث له؟ مكالمتان معه بعد وصوله مطار دمشق تشيران إلى أنه اكتشف متأخرا المخاطر. فقد اتصل به ابن عمه زياد بعد هبوط الطائرة وكان صوته مرتجفا وأسنانه تصطك وحوله من يطلبون منه قول أشياء. وقال حمادة إن مسؤولي الهجرة أخبروه أنه سيُعتقل لو دخل البلد، وأنه يحاول البحث عن رحلة أخرى متجهة إلى السودان، ونصحه بأخذها، ورد عليه حمادة: “ادعيلي ابن عمي ادعيلي”.

559