
الاقتصاد السياسي والديكتاتورية في سوريا
لم يكن هذا الموضوع ليخطر لي، لولا متابعتي على الإنترنت لأجزاء من كتاب رونالد وينتروب «الاقتصاد السياسي للديكتاتورية»، وبعض مراجعاته. التقى ذلك مع انشغالي بما يمكن أن يكون انتهاء صلاحية وصم النظام السوري بأنه نظام استبداد وفساد؛ بعد أن مرّ زمن طويل عليه، وسالت لتسقيه سوائل آسنة كثيرة.
استفاد وينتروب بدوره من جين كيركباتريك – مندوبة الولايات المتحدة القديمة والشهيرة سابقاً، ما غيرها- في كتابها عن الديكتاتورية والمعايير المزدوجة، ومن أبحاث لآخرين أيضاً. ما ميّزه عن هؤلاء جميعاً لم يكن طريقة البحث وحدها، بل أيضاً نحت تعبير» وعاء الصفيح» لوصف الديكتاتور من النوع المتهالك، العاجز عن الانسجام مع أيّ نسق محدّد.
أجاب وينتروب في كتابه عن أسئلة وضعها بنفسه، من بينها: ما هي الأدوات التي يستخدمها الديكتاتور لاستدامة سلطته؟ وما الذي يحدّد قدرة النظام على القمع؟ وكيف يستجيب مستوى القمع للقوى الاقتصادية (مثل الناتج القومي) والقوى السياسية (مثل تحوّلات مستوى الشعبية)؟ وهل يقود اقتصاد السوق حتماً إلى انحطاط الديكتاتورية السياسية؟ وكيف تنتعش القومية ولماذا يهواها الطغاة؟ ولماذا كانت هناك ديكتاتوريات طويلة العمر (الاتحاد السوفييتي- الصين- كوبا- إيران) بينما غيرها قصير الأمد وغير مستقر (أنظمة افريقية ولاتينية عديدة في الستينيات والسبعينيات الماضية)، ولماذا كانت هناك حكومات مطلقة القوة مثل روسيا ستالين وألمانيا هتلر؟) وهل تلعب «الشعبية الحقيقية» دوراً في استمرار فرصة البقاء، كما حدث مع كاسترو وربما صدام حسين؟ أم كان ذلك بسبب المهارة في منح المكاسب والمكافآت؟ أما الفساد، فيحصل في نقطة تماس وتداخل بين الخاص والعام في الدولة، حيث تتمّ سرقة أصول الدولة مباشرة أحياناً، وتتمّ رشوة» الخاص» للعامّ، أو المسؤول الحكومي صاحب السلطة في توزيع المنافع.
عند تفاقم الفساد فوق نقطة غير محدّدة؛ ربّما تكون» نقطة خضوع» تشبه تلك المعروفة في عالم مقاومة المعادن؛ يصبح أمراً مقبولاً، مع استمرار الاستعانة بالكتمان إلى هذا الحدّ أو ذاك. ويستمرّ هذا التراجع حتى يصبح في النهاية أمراً مفروغاً منه، لا يُستنكر موقف إلّا من يستنكره.
تركيز النظام على تأثير العقوبات على واقع ومستقبل البلاد، لا يتعلّق بالآثار الاقتصادية، بل بما تعنيه من عزلة تضعفه، حتى أمام حلفائه وأمام الناس الذين يزدادون غضباً يوماً بعد يوم
في سوريا، جاءت» الحرب الأهلية» المتشعّبة والمتعدّدة والمتداخلة مع حروب شتّى ذات أطراف خارجية، المترافقة مع نشوء قوى غريبة عجيبة، وميليشيات لا يستطيع تنميطها أحد بشكل كامل: من قوى خارجية مباشرة، وقوى وكيلة، وميليشيات طائفية متنوعة، وميليشيات/عصابات لرجال الأعمال غير المشروعة، ومجموعات تعمل في تجارة السلاح وقطع الطرق واستثمار أو بيع النفط، وطويل العمر ممّن ما زال يحمل آثاراً تبقّت من زخم الانتفاضة السورية.
أصبح «التعفيش» واحداً من مصادر دخل الأفراد، بين تلك القوى في البداية، ثم أصبح معمّماً يمكن أن نسمّيّه» التعفيش العام» مثلاً، حيث يتمركز الفساد أكثر، وتتطوّر فيه قواعد انضباط خاصة ومعقّدة. منذ السبعينيات في سوريا، كانت مناحي النفط المالية مسألة ممنوعة على العوام، لا ينظر فيها وإليها أحد حتى الحكومة. وفي السنوات الأخيرة، تزايد التمركز ليشمل الاقتصاد كلّه، تحت مطرقة وضبط بعض آل مخلوف كوكيل عام للأسد الأب ثم الابن، ولكنّ ذلك تغيّر بسرعة في هذا القرن مع الانتقال إلى العهد الجديد، الذي عانى من تغيّرات تفوق قدراته على التحكّم والسيطرة: منذ «غزوة» سبتمبر 2001، وغزو العراق 2003، واغتيال الحريري ثم الإخراج من لبنان 2005، ثمّ بداية الربيع العربي وانتقاله بسرعة إلى عرين الأسد.
هنا أصابت علم الاقتصاد السياسي ومفهومه ضربة محلّية في رأسه، بعد أن كان علماً مساعداً على قنونة وفهم تحوّلات الحداثة، يربط بين الاقتصاد والاجتماع والسياسة، أو بين الإنتاج والتبادل والسياسات. فلم يعد كذلك، وعادت تلك العلاقة إلى حالة أكثر بدائية، ومن ثمّ وحشية. وهو إذ كان أداة علمية لتفسير الصراع الطبقي لدى ماركس، من خلال انعكاس التحديث الرأسمالي على حالة الطبقة العاملة والفئات الهامشية، مزيداً من الفروق في المعيشة؛ لم يعد كذلك في سوريا، مع اختلاف الحال، والدخول في وضع غير قابل للقياس.
في السنوات الأخيرة، وبعد تصفيات متلاحقة في الطبقة العليا لاقتصاد النظام السياسي، صار هناك مركز له ومكتب في القصر، تقوده زوجة الرئيس، يتحكّم هذا المكتب بتوزيع وجباية مجمل موارد الاقتصاد السوري؛ رغم أنه غير معروف ما إذا كانت له علاقة بالسياسات النفطية، وبمصادر الدخل الريعية الطارئة كالمساعدات الواردة من الخارج مقابل بيع أصول البلاد الحقيقية والرمزية (مع إيران وروسيا)، أو بموارد تجارة السلاح أو قطع الطريق.. خصوصاً لا يُعتقد أن له علاقة بالمخدرات والكبتاغون الذي هو مصدر التمويل الأساسي للنظام وحروبه تحت قيادة مباشرة من قبل الرئيس وشقيقه. وقد فقد هذا النظام ما يوحيه اسمه من بعض القواعد الضابطة، واستعاض عنها بقواعد جديدة ومبتكرة، ومتحرّكة أيضاً.
يمكن فهم دور المخدرات بمجرّد معرفتنا أن ما هو معروف حول وارداتها كونها تقارب ضعفي موازنة النظام (5.1/3.1 مليار دولار، في تقدير أصبح قديماً الآن)، التي يزيد العجز فيها أساساً عن ثلثها. وربّما تكون تلك الفوارق أكثر بكثير في واقع الأمر. لكنّنا حتى لا نكون أسرى المبالغة المعروفة عن المعارضين، نقرّ بأن هذا الموضوع لا يخضع إلى آليات تحكّم صارمة، وأن مداخيله تتوزّع بالتأكيد، وتتسرّب من كثير من عناصره، على الميليشيات والعصابات والتجار. وربّما يذهب مركز الضبط والتحكّم النسبي هنا إلى الفرقة الرابعة التي يقودها أخ الرئيس. سوف تعني هذه الأرقام وكلّ دلالاتها، أن النسبة الكبرى من» الاقتصاد السياسي» تتعلّق بالرئاسة ومن حولها من «الأقمار» الدائرة. وأن النسبة المتعلّقة بالآخرين: الغالبية الساحقة من الناس وضمنهم العامليو في القطاع العام وأجهزة الإدارة، هي نسبة بائسة، تجعل من أيّ دخل مجرّد خيال لأجسام جائعة هزيلة، لا تستطيع حراكاً إلّا بشق الأنفس، وبتحويلات مقبلة من ملايين السوريين من الخارج، تكسر تلك المجاعة من يوم إلى يوم.
كان النظام السوري يدفع عن نفسه غضب الخارج والداخل سابقاً بالحديث عن «محاربة الإرهاب»، وعن» المؤامرة أو المؤامرات الخارجية»، وعن «العقوبات الغربية» التي تمنع الاقتصاد من التطوّر والتماسك. وقد انهارت تقريباً مقوّمات وركائز تلك المعزوفة، ليبقى منها مسألة العقوبات وحدها. لكنّ تركيز النظام على تأثير العقوبات على واقع ومستقبل البلاد، لا يتعلّق بالآثار الاقتصادية – وبالأحرى المعيشية – بل بما تعنيه من عزلة تضعفه، حتى أمام حلفائه في الداخل والخارج، وتزيد من جرأتهم عليه، وأمام الناس الذين يزدادون غضباً يوماً بعد يوم.
لا يمكن الجزم في الواقع بدرجة تأثير هذه العقوبات على حياة الناس ومعيشتهم في سوريا، مقارنة مع تأثير سياسات النظام المذكورة أعلاه. ويقول تقرير حول ذلك نشره موقع» سيريا- ريبورت» إلى أن تداعيات العقوبات تصل «إلى ما هو أبعد من الأهداف المقصودة منها»، لتؤثر على السكان المدنيين، ما يؤدي إلى زيادة البطالة والتضخم وانخفاض في مستويات المعيشة. وإلى أنه «بينما يواصل المجتمع الدولي فرض أنظمة عقوباته وتكييفها، يجب عليه الموازنة بين الأهداف الجيوسياسية لهذه العقوبات والحاجة الماسة لدعم السكان السوريين وسط الصراع المستمر والاحتياجات الإنسانية.
لا يتطلب هذا التوازن اتباع نهج دقيق ومتكيف لتنفيذ العقوبات وتعديلها فحسب، بل يتطلب أيضا إطارا قويا للإعفاءات القانونية والإنسانية التي يمكن أن تلبي الاحتياجات الطارئة دون المساس بالأهداف الشاملة للعقوبات نفسها». رغم ذلك، يشير عجز النظام عن تنفيذ متطلبات التطبيع العربي، إلى خضوعه لكلّ ما يحدّد خياراته ويحدّ منها حتى الآن: من اقتصاد دولة المخدرات، إلى السياسات الإيرانية والروسية والإسرائيلية، إلى بنيته والعناصر المكوّنة له التي تتمادى دوماً في» العزّة بالإِثم» وتعجز عن تغيير اتجاهها!
كاتب سوري موفق نيربية
المقال يعبر عن رأي الكاتب
545