مدارس السريان وصراع الإرادات
شفان إبراهيم
ارتفعت حدّة التصريحات خلال الأيام الماضية بين الإدارة الذاتية وأحزابها عامة والسريانية الآشورية خاصة، وممثلي كنائس الديانة المسيحية،على اختلاف تسمياتهم وتفرعاتهم؛ حول قضيةٌ، ظاهرها يعاكس باطنها وينافي أسباب الترويج ومن كِلا الطرفين.
حدّية التعامل بين الطرفين، بحجة المناهج المدرسية وصلت إلى كسر العظم بعد حوالي عام من قضم الأصابع، في النهاية شهدت القامشلي تحولاً لم يكن غائباً عن المشهد السياسي واليومي والمجتمعي، لكنه فقط كان شبه مستتر.
تعي الإدارة الذاتية تماماً أنها لم تتحول بعد لدى عامة المكونات والشعب في المنطقة إلى إدارة رسمية يُمكن أن يلجأ الناس إليها طواعية، ولم تتحول إلى جهة قادرة على حمل مفاتيح إدارة هموم ومشاكل الناس ومتطلباتهم، لكنها أصبحت إدارة أمر الواقع، فهي لم تنل حتى اليوم رضى الطبقات والفئات والشرائح غير المنتمية إلى فلسفتها وسياساتها. لا بل راحت الفئات المنتمية منذ عقود إلى التيار الأبوجي، أو بلغة الشارع الحسكاوي "الأبوجيين الحقيقيين" في إشارة إلى تمايزهم عن الأبوجيين ما بعد الانطلاقة الجديدة للاتحاد الديمقراطي، وتحديداً منذ توفر السيولة المالية ما بعد 2013، راحت تلك الفئات تتحدث وبصوت جهوري وتنتقد دون حرج وتخرج من صمتها وبعنف جراء ما تقوم بها قياداتهم والأبوجيين الجدد.
مُحددات تتوضح ضمن التظاهرة
بتاريخ 28/ 8/ 2018 خرجت تظاهرة / اعتصام سرعان ما تحولت إلى مسيرة في شوارع حي الوسطى ذي الغالبية المسيحية في مدينة القامشلي للتنديد بإغلاق المدارس الخاصة.
الحدث شهد أربع محددات أساسية:
أولاً: المتظاهرون رفعوا لافتات للمطالبة بمدارسهم وحرية اختيار المناهج وهتفوا باسم وحدة سوريا ووحدة الشعب السوري، ثم انضم إليهم المطارنة والأساقفة ورجال الدين المسيحي.
ثانيا: دخل مجموعة من مؤيدي النظام السوري ضمن التظاهرة، وتحولت إلى مسيرة والهتاف بحياة الرئيس السوري.
ثالثاً: الحديث بألفاظ نابية وسيئة جداً بحق الكُرد والإدارة الذاتية من قبل البعض.
رابعاً: انسحاب الأسايش وقوات السوتورو السريانية من المدارس التي كانت تتحصن بها واستولت عليها، مكتفية بإطلاق الرصاص الحيّ في الهواء.
ماذا يعني ذلك:
المحدد الأول: جوهر وحقيقة الصراع ملتبس؛ إذ أن قضية المناهج ليست سوى للتغطية على السبب المباشر المتحدد عبر الصراع البنيوي بين الأحزاب السياسية السريانية والأشورية من جهة، ومن جهة أخرى الكنائس ورجال الدين المسيحي. حيث أن الوجود القومي بالنسبة للأخير يعني الحفاظ على اللغة والتراث والثقافة، وكل ما يدخل ضمن عائلة الأدب السرياني، وهي تستطيع تحريك الشارع بكل بساطة، بينما الوجود القومي وفق الأحزاب السريانية الآشورية المنضوية تحت لواء الإدارة الذاتية تتجلى بالتواجد القومي والذي لم تجد منفذاً لهم سوى عبر مشاريع وطروحات الاتحاد الديمقراطي، والذي بدوره سيستفاد بفرض سطوته على مكونات المسيحيين لو تمكنت أحزابه من ذلك. وإن ما يؤرق الاتحاد الديمقراطي والإدارة الذاتية هو هامش الحرية الذي تتمتع الكنائس والطوائف الدينية بدعم وحماية من النظام السوري لهم من جهة، ومن جهة ثانية لا يخفى هاجس شكواهم إلى المجتمع الدولي من سياسات تطبق بحقهم، وهو الهاجس –هامش الحرية- الذي تخشى الإدارة من نقل مورثاته إلى باقي المكونات، علماً أنها لو تمكنت من السيطرة على حيّ طيّ ذي الغالبية العربية، لما تردت.
بالمقابل فإن ردة الفعل كانت رسالة واضحة مزدوجة إلى الاتحاد الديمقراطي والإدارة الذاتية من جهة، ومن جهة التشكيلات السياسية والعسكرية للسريان والأشوريين ضمن الإدارة الذاتية، بعدم شمول قراراتهم على غالبية السريان/الآشور واستعدادهم للخروج بالضد منهم وتحدي قراراتهم ومواجهة العسكر مهما كلف الثمن، خاصة وأن الأمر يتعلق بمصير ومستقبل أبنائهم إضافة إلى كسر شوكة وغطرسة الأحزاب السريانية والتي تنتهج أساليب الاتحاد الديمقراطي في تعامله مع الأحزاب الكردية، مستقصدة فرض سيطرتها على الشارع السرياني وحمل لواء الممثل الوحيد لهم.
المحدد الثاني: العزف على نول رفع فئات للعلم السوري، من المشاركين في الاعتصام والمناداة بحياة رئيس سوريا، هي للنفخ في قربة ميتة وأسطوانة مشروخة، ونكتة سمجة. تصوير الموضوع على أنه نزاع بين مؤيدي ومعارضي النظام السوري يدفع بعامل السلب من مواقف وسياسات الإدارة الذاتية نحو السطح؛ فقبل ست سنوات أو أكثر: خرجت جموع من أهالي حيّ الوسطى، في مسيرة تأييد للنظام، واستقبلوا بعض قيادات البعث بالعلم والشعارات والهتافات عينها التي استخدمت في تظاهرة 28/8/2018.
فأين الجديد في الموضوع؟ الجديد القديم هو عجز الإدارة الذاتية عن تغيير تفكير هؤلاء بعد 6 سنوات من السيطرة، ما يعني أنه لا اقتناع بعمل الإدارة الذاتية، ولا تمثيل أو أرضية شعبية للأحزاب المسيحية ضمن الإدارة ذاتها.
المحدد الثالث: اتهام عموم الكُرد بهذه القضية، هي محاولة من قبل البعض وبدفع من جهات معادية للسلم الأهلي لزج المنطقة في أتون بدايات صراع لن يَسلم منها أحد. القرار صدر بناء على طلب من الأحزاب السريانية ضمن الإدارة، والتعميم صدر من مؤسسات ثقافية لغوية خاصة بالسريان. محاولة زج الكُرد تحمل خلفها تداعيات ومخططات سلبية ضد المنطقة.
المحدد الرابع: موقف قوات الأسايش والسوتورو وإن كان نابعاً من تنفيذ القرارات، لكنه جميل أن تنتهي مظاهرة بدون دماء أو كدمات أو اعتقالات. لكن سؤال الوجعّ الكُردي: لماذا لم يكن موقف الأسايش من تظاهرات الكُرد ضد مناهجهم، الموقف ذاته من تظاهرات الأمس؟ المواقف الملتبسة من الحدث ذاته لجهتين مختلفتين، تُعجل من انهيار الجدار المجتمعي بسرعة.
البطريارك الأكبر في ديارنا!
بقاء المحتجين في الحرم الكنيسي والمدرسي حتى صبيحة اليوم التالي، رسالة واضحة تحمل همين مزدوجين:
أحد الهموم: بالمطلق لا ثقة بالإدارة الذاتية وحزبه الحاكم والأحزاب السريانية والأشورية من جانب الشارع المسيحي واستعدادهم للاحتكاك والتصدي وحتى المواجهة إن اقتضت الضرورة مع أي قادم جديد قديم بخصوص المدارس وهو ما يضع المنطقة على صفيح ساخن جداً.
وهمٌّ آخر يتجلى في فقدان شعور الأمان والطمأنينة وبقاء المنطقة تحت نار الاستعارات والمناكفات والصراعات المختلفة. خاصة مع مشهد وقفة الفتاة أمام أحد عناصر السوتورو متحدية إياه بإطلاق النار صوبها، رسالة مفادها /طفح الكيل والروح في ظل الاستبداد خطيئة كبرى/
التوتر العميق دفع بالبطريارك للقدوم على متن طائرة خاصة صوب مطار القامشلي فجراً، ومن المتوقع أن يتم حل الإشكال بشيء يحفظ ماء وجه الإدارة وأحزابها السريانية وربما يكون الطالب الكُردي هو الضحية مجدداً والاشتراط عليهم عدم تسجيلهم كما طُلب العام الماضي.
نقاط متفرقة:
أولاً: اللغة الأم. هدية ربانية للبشرية. لا يمكن لأحد إلغائها أو منعها، والتعددية الثقافية واللغوية مفتاح العيش المشترك. وتعلم اللغة الأم شيء، والتعليم بتلك اللغة شيء آخر. كان يمكن للإدارة أن تسجل أقوى موقف لها بتدريس اللغة الأم، لو تم اللجوء إلى أساليب وأدوات تربوية ناجحة، والسعي نحو اعتراف من أي جهة كانت، لا اللجوء نحو فرض منهاج ووضع أجيال تحت خطر الاعتراف من عدمه.
ثانياً: ما استطاعت أعداد قليلة من المعتصمين القيام به ورفض قرارات الإدارة الذاتية للمرة الثانية بعد قرار منع المعاهد الخاصة من مزاولة عملها، لم يتمكن الشارع الكُردي بزخمه وقوته من تنفيذه، ومرد المفارقة نقطتين:
الأولى كردية تتعلق بيأس الشارع الكُردي من الإدارة الذاتية وغالبية الأحزاب الأخرى، وعدم رغبتهم في التصادم المباشر مع الاتحاد الديمقراطي، على أقل تقدير حتى اللحظة. خاصة بعد عقود من الحرمان والضيّم الواقع عليهم، ولسان حالهم: استبدلنا الاستبداد بعقلية متحجرة أحادية الغائية.
الثاني سرياني: لا نُذيع سراً، غالبية السريان كانوا يتمتعون بمزايا في عهد النظام السوري، وعدم استعدادهم لقبول وليّ جديد يفرض عليهم سياسات لا تنسجم مع تطلعاتهم، قابله استعدادهم للتصدي والتصادم حتى مع السريان والسوتورو ضمن الإدارة الذاتية.
ثالثاً:ما نزال جميعا نقول: المناهج التي تخدم مشروعا سياسيا لحزب واحد، غير واقعي ولن يجد من يخضع له خارج سياق الإجبار المتعلق بظروف المعيشة.
رابعاً: إذا تراجعت الإدارة الذاتية عن قرارها المتعلق بإغلاق المدارس الخاصة، وعادت الأمور كما كانت، هل سيحق للشارع الكُردي المطالب عينها، وماذا بشأن المدارس الكُردية الخاصة؟! أو أن نسبة الشحن والعنف وخطاب الكراهية سيرتفع إلى أعلى مستوياته كُردياً
خامساً: رسالة من النظام السوري: في أي لحظة بإمكاني تحريك الشارع وإن كان ذلك ببطء، لكن ثمة فراغات كبيرة وكثيرة يُمكن أن يجتمع قسم من العرب والسريان معاً على معاداة الإدارة الذاتية والاتحاد الديمقراطي والكُرد تالياً.
سادساً: أسوء خطاب لغوي/ثقافي انحصر في مقولة أحد الكتّاب الأشوريين "الربيع السرياني بدأ" إذا كان خطاب المثقف الأشوري بهذه العقلية لا عتب على العوام.
أخيراً: خلط الحابل بالنابل، لإظهار القضية بشكل من يدافع عن لغته الأم، ومن يحاربها، هو تكريس لمفهوم خلق العقل المسخ والعيش ضمن صندوق مغلق لا غير.
المقال يعبر عن رأي الكاتب
738