
العدالة الانتقالية ومطالب أهالي عامودا
العدالة الانتقالية ومطالب أهالي عامودا
شفان إبراهيم - ليفانت
أسدلت عوائل شهداء مجزرة عامودا، الستار على فصل جديد من محاولات رأب الصدع وتنقية الأجواء بين أهالي عامودا وقوات الحماية الشعبية. ففي يومي 27-28_6_2020، استشهد وجرح مدنيون واعتقلت مجموعة أخرى في عامودا على يد قوات الحماية الشعبية.
إذ ربطت تلك العوائل، دعوة قوات سوريا الديمقراطية لقبول مبادرة الصلح بين الطرفين، بمدى تحقيق مطلبهم المتمثل بمحاكمة الجناة والقيادات العسكرية والسياسية المتورطة في تلك الفترة. ويقيناً أنّ تنقية الأجواء وترتيب اللقاءات بين الأطراف الكُردية المتصارعة، ستساهم في حلحلة حالة الاستعصاء السياسي التي عاشها المسرح الكُردي، بكل تجلياته، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبل حتى على صعيد العلاقات الأسرية والتفسخ العميق، الذي أصاب جزر المجتمع الكُردي جرّاء تلك الخلافات.
وإن كانت حالة الاعتذار التي تقدمت بها قوات الحماية الشعبية، على لسان ناطقها “نوري محمود”، تُعتبر نقلة نوعية وجوهرية في بنية التنظيمات السياسية والعسكرية والإدارية للاتحاد الديمقراطي، الذي ما تعود على الاعتذار حتى وهو في أسوء مواقفه. إنّ إشراف “مظلوم كوباني” قائد قسد على عملية تشكيل لجنة للصلح والحوارات، التي استمرت منذ مدة ليست بالقليلة، وربطها بالأجواء العامة التي تعيشها المنطقة الكُردية، من حوارات ولقاءات بين الطرفين الكُرديين الأساسيين، متمثلاً بالمجلس الوطني الكُردي، وأحزاب الوحدة الوطنية الكُردية، فإنّ كل ذلك يشي بوجود جهات أخرى، تدفع باتجاه تعزيز مفاهيم السلم الأهلي وإنهاء التوترات، التي من شأنها التأثير على تلك الحوارات.
إنّ الانحياز لمطالب ذوي الشهداء، هو الموقف المشرف والأكثر وطنية والتزاماً بقضايا الحق، لكن قضية العدالة تفوق قدرة عوائل الشهداء، والمجلس الوطني الكُردي الذي خوّلته العوائل لتمثيلها، خاصة، وأنّ /ENKS/ بوضعها وتمثيلها كطرف رئيس في الحوارات القائمة حالياً، يضعها في حلبة جديدة من الحوار. كما أنّ راهنية مطالب أهالي عامودا تخضع لمُحدد واحد فقط، خاصة وأنهم لم يطالبوا بالانتقام، بل بتحقيق العدالة والقصاص وفق القانون والمحكمة، وهنا المُحدد المُّر الذي سيتجرعه أهالي عامودا، شأنهم شأن كل السوريين الذين لن يتمكنوا من تحقيق القصاص العادل، حالياً على أقل تقدير.
ففي حالات الحروب والمعارك، وللابتعاد عن استمرار الدماء والقتل والتشريد، فإنّ العدالة الانتقالية هي المفتاح الوحيد لحل الإشكاليات، وإنقاذ المجتمع من قضية الثأر المتواصل، وما يخلفه من تداعيات مجتمعية كارثية. وبما تحتاجه _العدالة الانتقالية_ من تحول ديمقراطي، وتعبئة حقوقية دولية واسعة، فهي مجموعة إجراءات وتدابير قانونية وقضائية، هدفها معالجة تداعيات إرث ثقيل من انتهاكات حقوق الإنسان لتمكين مجتمع معين من أسباب الاستقرار والسلم الاجتماعي، بعد حقبة من الحرب الأهلية، أو الحكم الدكتاتوري. وتهدف نحو ترسيخ ثقافة المسؤولية الدولية أو نظام الحكم الديمقراطي.
هذه المحكمة تتحقق وفق منحيين: داخلي، ضرورة وجود إرادة سياسية لتحقيق العدالة الانتقالية، وتطيح بالحسابات السياسية لصالح التأسيس لدولة القانون والحق. وهو بمثابة التحدي الأكبر والأهم، فهل ثمة نظام حاكم مسؤول عن التجاوزات، أو الجرائم، أو… إلخ، قادر على شرح وتحليل فترة زمنية امتازت بالمظلومية تحت سلطته وتحمل المسؤولية التاريخية عنها، خاصة مع الانعكاسات السياسية التي تهدد النظام نفسه؟. أو دولي، حيث تتحقق العدالة الانتقالية بمحاكم خاصة تضطلع بالمتابعات القضائية ضد المشتركين في الجرائم ضد الإنسانية.
بيد أنّ الحل الدولي _العدالة الانتقالية_ لمنع الانزلاقات ضمن المجتمعات الخارجة لتوّها من الحرب، أو الدول المعروفة بدول ما بعد الصراع، فإن ذلك الحل هو نفسه سبب من أسباب إدامة أمد النزاع في سوريا نفسها، فإقامة محكمة العدالة الانتقالية ستشمل رموز من النظام السوري، وروسيا، وإيران، والفصائل العسكرية التابعة للحكومة السورية المؤقتة، قسد، وفق روايات وإدعاءات شرائح من المكون العربي، وقوات الحماية الشعبية، وفق أهالي عامودا، ومناطق أخرى، وحتى تركيا نفسها، حيث في كل منطقة جغرافية خضعت لسيطرة تلك الجهات أو شهدت معارك وحروب واشتباكات، سقط العديد من الضحايا والشهداء والجرحى، عدا عن عمليات القتل والانتقامات والقصف المروحي على المدنيين، فمن سيحاكم من؟، ومن هي الجهة المخولة بإصدار قرارات إنشاء المحكمة، خاصة وأنّه لوضع آلية دولية للتصدي لجرائم الحرب والجرائم المرتكبة بحق الإنسانية، أسست محكمة الجنايات الدولية عام 2002، بناء على معاهدة روما، الموقعة قبل ذلك بأربع سنوات. وإذا كانت أغلب الدول الفاعلة في الشأن السوري مشتركة أو متهمة أو مرتكبة لجنح وجنايات، أو تسببت معاركها سواء بين الكتلتين العسكريتين، نظام ومعارضة، أو محاربة داعش من قبل التحالف وما تسبب به القصف المروحي على ممتلكات وأرواح المدنيين الذين استخدمتهم داعش كدروع بشرية. فإنّه خلال كل الجلسات والحوارات الدولية، خلال الأعوام الأخيرة، كان هناك تغييب شبه كامل وتام لمفهوم العدالة الانتقالية.
وبالعودة إلى حالة عامودا، ومطالبة الأهالي بإقامة محكمة عادلة وحيادية لمن أمر بإطلاق النار، فإنّ القول الأكيد، أن لا أحد في العالم يتخيل أو يشعر بمرارة من فقد ابنه ظلماً ودون وجه حق، إلا من عايش الظلم نفسه. ومع غياب العدالة الشفافة لدى الإدارة الذاتية، عدا عن صعوبة إقامة محكمة للمتورطين ضمن مناطق الإدارة الذاتية، وصعوبة إقحام أطراف كُردستانية في المحكمة، نظراً للظروف التي تعيشها كرُدستان العراق، وهو المطلب الذي اقترحته عوائل الشهداء، فإنّ غياب الجهة الدولية الداعمة لهذه المحكمة تفقدها إمكانية وجودها ودعمها، عدا عن عدم استعداد الإدارة الذاتية والاتحاد الديمقراطي لهذا الطرح من أساسه، وتقاطعه مع الرغبة الدولية التي تخشى من تحول هذه المحكمة إلى مطلب سوري عام، بما يشمل تلك الجهات المتورطة في سفك دماء المدنيين، ورُبما يتأجل إلى أمدً آخر. حيث يخضع طلب إقامة المحكمة لثلاثة محددات، أولها: إنّ القانون السوري يمنح مدة /15/عام لرفع الدعوة، أو إسقاط الدعوة الفردية بالتقادم. وثانيها: لا يسقط الحق الفردي، المتعلق بالجرائم ضد الإنسانية، أو المجازر لدى محكمة الجنايات الدولية، أما ثالثها: فهي المتعلقة بمرحلة كتابة القوانين الجديدة والحكم الرشيد، حيث إنّ التوجهات عادة ما تكون صوب التئام الجروح، وعدم إثارة أيَّ نقاطٍ من شأنها إثارة المزيد من النعرات أو سفك الدماء.
من جهة الارتباط العضوي بقضية ما، فإنّ النشاط في مجال الكتابة والصحافة والرأي، يدفع بحاملها صوب الاصطفاف مع مواقف الناس، الشعب، مع كُل من يحمل قضية ضد أيَّ سلطة في أيَّ مكان من هذا العالم المتوحش. فكيف والحال مع أهالي عامودا، مدينة الشموخ والشعراء والمجانين والعشاق. لذا فإنّ المنطق الإنساني والقومي والسياسي، يفرض علينا أن نقف مع أهالي عامودا في كل مساعيهم وطلباتهم ورغباتهم، بما في ذلك قضية المحاكمة نفسها، خاصة وأنّها رسالة واضحة؛ ثمة من لا يبيع دم ابنه بالمال، بيد أنّ مشكلة هذه المحكمة صعبة ومستحيلة المنال، على الأقل في الظرف السوري والتدخل الإقليمي والدولي الحالي.
هذا الموقف هو الشارح لطبيعة الحياة والتعاطف مع قضايا المظلومين، بعكس حالات التنمر والاستخفاف الذي شهدته وسائل التواصل الاجتماعي للمحسوبين على الإدارة الذاتية. متناسين مبدأ أنّ الموقف من الحريات والديمقراطيات واحد ولا يتجزأ، كذلك الموقف من عوائل الشهداء أيضاً واحد ولا يتجزأ، وبمعنى أكثر دقة، فإنّ تقدير واحترام عوائل من استشهد ضمن قسد أو الــ/YPG/ يستلزم الموقف نفسه من عوائل شهداء عامودا، خاصة وأنّ لا معركة وقعت في عامودا، ووفق بيان الاعتذار، فإنّ قوات الحماية الشعبية تحملت مسؤولية ما حصل، والمهم هو تجنب هؤلاء المؤججين لنار الفتنة والخلاف حول إيقاظها بعد إخمادِ مرارتها.
لابد من البحث عن مخارج جديدة، وإيجاد حل يُرضي ويُشفي غليل الأهالي الذين يُشاهدون قاتلي أبنائهم _وفق ما يقولون_ وهم يسرحون ويتابعون أمور حياتهم بأريحية، وضمن مدينة عامودا نفسها، دون أن تلجأ عوائل الشهداء للتصفيات والانتقامات، وهو الموقف الوطني المشرف، والمحافظ على السلم الأهلي. ولو نظرت قيادة قوات الحماية الشعبية منذ سنوات للموضع بعين خارج إطار وسياقات التهم الكاذبة التي روجتها حول تلك الحاثة، وربطهم بجهات مشبوهة، دون وجه حق، لأقدمت على أقل تقدير لإخراج الجناة من عامودا منذ أعوام.
المقال يعبر عن رأي الكاتب
1075