يحدُث في مناطق

يحدُث في مناطق "الإدارة الذاتية" السورية

Jul 09 2019

يحدُث في مناطق "الإدارة الذاتية" السورية
شفان إبراهيم - العربي الجديد

يتحدّث جورج أورويل في مؤلفيْه "1984" و"مزرعة الحيوان" عن الاستبداد والقمع والفساد والفوضى، ومحاولة اختراق الأذهان، إن عجزت الأنظمة القمعية عن اختراق الأجساد. محاولة إيجاد مسوخٍ لا يملكون سوى القبول والالتزام بمبادئ تفرضها النُخب الحاكمة وطبقة الدائرة المصغرة في تلك الدول الأوليغارشية. ويشرح عن انقلاب الحيوانات على مربّيهم، وصاحب المزرعة الذي أذاق الحيوانات مرارة التعامل الفظّ والضرب، وحرمانهم من العلف وغيره. في الحالتين، ثمة مقموعون ومشرّدون، جياعٌ وباحثون عن الخلاص، يتحدّث عن الإنسان الملتزم والمُصدّق كل ما يُقال له، وفي أول محاولة تمرّد يجد نفسه أمام آلة الضغط والقهر واختراق العقل البشري، والدخول إليه، والتحكّم به. لكن الحيوانات تنجح في طرد مالكها الذي يخشى على سمعته بين المزارع الأخرى، ويحاول استرداد المزرعة، ثم سرعان ما يضطر لطلب المساعدة من محيطه، ومع كُل القوة البشرية. ولكن النجاح يُحالف الحيوانات، وترفع راية النصر دوماً على الرغم من لجوء "البشر" المهاجمين للتخريب والتفجير والحريق وإطلاق الرصاص الحي.

درجت العادة لدى كرد سورية على الانتساب إلى أحد التيارين، البرزانيين أو الأوجلانيين، على صعيد العوائل والعشائر، أي بكتل بشرية وخزان شبابي واسع الطيف والشرائح التعليمية والذهنية. يعاني اليوم أصحاب المواقف السباقة للانتساب إلى حزب العمال الكردستاني منذ بدايات تشكيله في سورية في بداية الثمانينيات، الذين ضحّوا بأبنائهم، وكانت بيوتهم منصات استقبال طويل الأمد للمطلوبين والزائرين من خارج الحدود، تلك العوائل التي فقدت فلذات أكبادها في الصراع بين تركيا والحزب منذ بداياته. أغلبهم يعيش ويعاني لكونه منقاداً ومأموراً لشخصيات أو أحزاب أو جهات، لا علاقة لها لا بطبيعة الحزب أو الصراع الأيديولوجي التاريخي لهم خلال أكثر من أربعة عقود مع مختلف الجهات، بل أصبحت تلك الجهات التي تفرض قراراتها، وتتحكم بقسمٍ من مفاصل "الإدارة الذاتية". وليس إفشاءً للأسرار أو تجنّياً على أحد، الحديث حول تعيين غير الجديرين في أماكن مُحددة، ولن يكون لهم أي همّ أو خوف على إدارةٍ جاءت لهم بالمناصب على حين غرّة. وهم المعروفون في الوسط الشعبي بمصطلح "الأبوجيين الجدد"، أو "أبوجي2017" كناية عن بؤس الحال الذي تعيشه الجهات المُخلصة أمام صعود طبقاتٍ مُحدّدة وجديدة في الوسط.

غياب الفائدة والمنفعة الشعبية من جُلّ قراراتهم الصادرة عن اجتماعاتهم، أو مؤتمراتهم، بل ليست سوى محاولات إضفاء الشرعية على قرارات مشاريعهم السياسية، والحديث باسم الشعب، والواقع بعيد جداً عن قصص الشرعية الشعبية. ما فات "الإدارة" أن غالبية الكُرد غير منظمين وغير منتمين إلى التيارات السياسية، ويهمهم مستقبل منطقتهم ومصالحهم، وهذا جوهر الحياة، لكنها تذكّرت فقط البحث عن آليات ضمهم إلى مشاريعهم، من دون الوقوف على مطالبهم. في كل مشكلة أو مصيبة تلحق بالمنطقة على المستوى الشعبي، يكون الضحية المواطن مرتين، مرة لتضرّره من نتائج المشكلات، والثانية تحميل الإدارة الذاتية جُلّ المسؤولية للفرد المواطن، كما حصل في قضية حرق المحاصيل الزراعية، وتحميل بعضهم أسباب الحريق للفلاح بالتقصير لعدم حراسته أرضه.. أيّ حكومة تلك التي ترمي الحمل والثقل والمسؤولية عن كاهلها، لتتهم الأفراد بها؟ هل سيطفئ الفلاح النار التي تلتهم أرضه، عبر التبول عليها أم البصاق فوق النار، فتتحول النار إلى مجسّمات جليدية لأخذ صور السيلفي معها، وبضع إطفائيات لمنطقة كاملة، مترامية الأطراف، وواسعة الأراضي الزراعية؟ قبل أيام، وبعد تضخم عدد الشكاوى وزيادة حدّة المتذمرين من انقطاع المياه، تفضّل أحد الموظفين في دائرة تابعة للإدارة الذاتية باتهام الأهالي بسبب عدم توفر المياه، بحجة أنهم يسرفون في الصرف. وبعد ذلك، لجأت "الإدارة" إلى اتهام النظام السوري بتعمّد قطع المياه عن بعض الأحياء، لا تعرف "الإدارة" كيف تتحكّم بملف النفايات والزبالة المرمية على طرف المدينة، فتلجأ إلى حرقها، ظانّة في نفسها أن الحريق لن يدنو منها. دوماً الفرد التابع هو السبب، لأنها لم تنظر إلى نفسها إدارة بلد، ولا حكومة، ولا دولة. فقط تتصدّر الريادة في أيّ عملٍ يدر عليها الربح وجني الأموال. هذه ليست أحجية، بل فقط عدم النظر لمن يعيش في هذه المنطقة بعين الفرد المواطن، إنما بالتبعية والتابعية، فقط لا غير.

استطرادٌ ضخمٌ بعقل الشعب. لا مبالاة بهموم الناس ومطالبهم، سحقٌ لهموم الشباب وتطلعاتهم، وهذه للتاريخ يشتركون بها مع جميع الأحزاب الكُردية الأخرى. غياب التشبيك والتنسيق بين الإدارات والهيئات، فسادٌ مستشرٍ في مؤسّسات الإدارة الذاتية، وغياب الرقابة والشفافية وعدم الإفصاح عن الميزانية، ولا عن حجم الصادر أو الوارد في الدورة المالية أو عائدات معبر سيمالكا، أو حجم الأموال الواردة من عمليات الجباية والضرائب والفروض المالية وغيرها. تتبوأ بعض الشخصيات مناصب ومراكز، ليس فقط لا علاقة لهم بها، بل أصبحوا عالةً عليهم.
يُقابل هذا الحال عدم الاهتمام من أولياء الأمر، باعتراض أطراف وشخصيات على ما يحصل في المنطقة، وعدم تمكّن "الإدارة الذاتية" من اتخاذ قراراتٍ حاسمة، أو منصفة لصالح الشعب، مصاريف ضخمة لأمورٍ لا تُفيد، تقابلها بنية تحتية مهترئة، ووعود خُلبية للتخدير والتمييع. وفق هذا وذاك، جيشٌ من اليتامى لأبناء الشهداء، أعداد هائلة مِمَن انتهت حياتهم وهم على قيد الحياة، بعد أن فقدوا أجزاء من أجسادهم. لا خدمات، لا مستقبل واضحاً للمنطقة. للمرة الأولى في التاريخ، تتحوّل اللغة الأم من عامل تقارب وتصالح وتواصل شعبي إلى عامل تأزّم مجتمعي، وتفرقة سياسية شعبية، حتى ضمن البيت والأسرة الواحدة. تلجأ "الإدارة الذاتية" إلى جميع المحاولات، لطمس الهوية الكردية، باعتبارها هوية فرعية، لصالح الهوية العامة، "السورية الجامعة" من دون ضمانات، ولا حتى مُجرد التفكير بأن شيئاً من الهوية السورية العامة، أو الجامعة، أو الكبرى، قد انتهى، بمجرد سقوط الصواريخ، وتضرّر نحو سبعة ملايين سوري على الحد الأدنى. وهو ما يُحدث ردّة فعل عنيفة، وإن كانت كامنة في نفوس الشارع الكردي، والمنتمي لهم قبل الآخرين.

حالة الاحتقان ستصل بالإدارة الذاتية إلى الانسداد السياسي، لمتغيريْن: عدم الوصول إلى تفاهماتٍ، أو صيغ حلولٍ تخدم الشارع الكردي مع أطرافٍ فاعلة، يُمكن لها أن تساهم في تغيير المعادلة داخلياً، عبر إطفاء نوعٍ من الجدّية والتغيير الذهني والمؤسساتي لعمل الإدارة. والثاني عبر المساهمة في إيجاد توليفةٍ سياسيةٍ للتمثيل الخارجي، وهو المُحدّد الوحيد الذي سيُريح عوائل الشهداء الذين ترمز نفسياتهم ورفضهم الواقع، إلى عدم قبولهم الثمن السياسي المقبوض حتى الآن، لقاء دماء أبنائهم، وهو ما يعني أن أيَّ استمرار في سياسة التعالي من "الإدارة الذاتية"، أمام غياب أي بارقة أمل سياسي أو اجتماعي أو مالي في الأفق، سيسحب "الإدارة" والمنطقة إلى أحد احتمالين: التصدّع السياسي الإداري داخل الإدارة نفسها، نتيجة الانسداد المتأزم، أو الانفجار الشعبي بسبب غياب جُل ما يتطلع إليه الناس أو يأملونه. والاحتمال الثاني إن حصل، سيكون روّاده من ضمن الإدارة نفسها، ومن ضمن العوائل التي ناضلت، ودفعت ربيع عمرها خدمة لقناعاتهم السياسية، بمعنى أكثر وضوحاً، سيكون تفجير الوضع من داخل الإدارة نفسها لا من خارجها، وهو ما يعني أن التكلفة ستكون أكثر ثمناً وأعمق على صعيد النتائج.
في مُطلق الأحوال: محاولة التملص من المسؤولية والبحث عن جهة جانية لم تعد تنطلي على أحد. هؤلاء لا يتذكّرون الشعب، إلا حين يبحثون عن أكباش فداء لتقصيرهم وفشلهم الإداري والسياسي. والحل هو إما تقديم الحلول بسرعة قصوى، وإما زيادة الضغط داخل الإدارة نفسها، ونتيجة طبيعية لصراع الأضداد فالانفجار الداخلي سيكون سيد الموقف، وحينها حتى من يعيش خارج تلك المنظومة رُبما سيتضرر من احتمال تمدّد حالة الضغط إلى خارج أسوار الإدارة الذاتية، وجاهزية أعداء الكُرد من المنتقمين.

المقال يعبر عن رأي الكاتب

960