عن المشاكل السياسيّة للأدب الكرديّ... وهل يمكن فصل الأدب عن السياسة؟

عن المشاكل السياسيّة للأدب الكرديّ... وهل يمكن فصل الأدب عن السياسة؟

May 24 2019

شفان ابراهيم

مصطلح أدب الأقليّة الذي تحدث عنه كافكا، والذي كان المَعْلَم الأساسي لإنتاجه الأدبي، يرتبط بالأدب الذي يتمّ إنتاجه بلغة أقليّةٍ تعيش وسط أكثريّةٍ مختلفةٍ عنها لغوياً، إذ كان كافكا يكتب باللغة الألمانيّة في التشيك التي يتحدّث معظم أهلها اللغة التشيكيّة المختلفة تماماً عن الألمانيّة.

ووفق تعبير "كافكا" فإن التعبير الثقافي بطريقةٍ تجريديّةٍ عموميّة، لا يمكن تصنيفها ضمن أدبٍ خاص بالأقليّات، أو أدب متمايز، إنما التعبير الأدبي الحقيقي هو ما يتحدّث عن إرثٍ فكري، أو امتدادٍ للأدب الشفاهي والموروث الفكري والثقافي والفلكلوري، شريطة لزوميّة الإعجاز اللغوي في أيَّ طرحٍ جديد.

المشكلة الأولى: الصّراع بين الأطراف السياسيّة

الصراع بين الأطراف السياسيّة، يُفضي إلى تباعدٍ أدبي بين مجمل المُنْتَمين للغة الأطراف المُتحاربة، وللأسف يتخطى الحدود الجغرافيّة لرقعة الصراع، ليصل إلى أبناء اللغة نفسها وصراعهم مع غيرهم ضمن السياق ذاته. وكما أن الأدب ليس لغة أدب الأقليّات وحدها، وإنما ما تستطيع أن تصنعه ضمن اللغة الرئيسيّة أو لغة الأكثريّة، فتحمل سمة عبور الحدود المصطنعة ومحاولة ردمها. المؤسف أن أدب الأكثريّة لا يكترث للكتابة بلغة أبناء الحدود المصطنعة، ومن الممكن أن يُصبح الأدب شيئاً غير مستحيل للتقريب بين الأجيال.

ما عاناه الكردي، خارج إطار القضيّة الكرديّة سياسيّاً، ساهم في إحجام الأدباء السوريين عن الكتابة باللغة الكرديّة، أو الكتابة عن الكرد خارج إطار القضيّة السياسيّة، وإن يكن من غير المطلوب من الأدباء العرب الكتّابة باللغة الكرديّة، لكنهم أيضاً لم يسعوا لكسر طوق العتمة والتعتيم والتعريب على اللغة الكرديّة، كلغة شعبٍ ولغة أدبٍ حيّ وموروث، ولم يقم هؤلاء أيضاً بدورهم كأدباء في كسر الطوق السياسي عبر الأدب، خاصّةً وأن حماية الوعي بوطنٍ واحدٍ للجميع، لا بدّ أن يمرّ بالضرورة عبر الأدب، والمشاركة الوطنيّة في معركة تثبيت الوجود للآخر، يتطلّب ميداناً خاصّاً لمعركة الأدب وامتزاجه مع أدب الأقليّات وغيرهم، لتبدو قضية الحريات والآخر والعيش المشترك، أكبر من انحسار المشكلة بنزعةٍ كرديّةٍ انفصاليّة، أو عربيّةٍ إلغائيّة. لذلك فإن انعدام الكتابة الأدبيّة بغير اللغة العربيّة، لغير الكرد، وعدم الاكتراث بنفي اللغة الأدبيّة الخاصّة بالقضيّة الكردية، أدّيا لزيادة الشعور بالمسافة التي لا يمكن اختزالها حيال الآخر. خاصّةً وأن الاقتصار على الكتابة باللغة العربيّة فقط لأغلب مكوّنات سوريا، ساهم بعدم هدم الحدود النفسيّة والفكريّة بين أبناء البلد الواحد، ما خلق لدى الكرد نزعةً نحو تشبيه وضعهم الأدبي بالحالة السياسيّة لقضيتهم، وكانت بذلك أحد عوامل عدّ اللغة الكرديّة، لغة اصطناعيّة هشّة على صعيد الانتشار والتبادل الثقافي.

يعيش الكرد على صعيد اللغة والثقافة والفكر، انتماءً لطرفين، إحداهما وطني سوري، مقصيين عنه تماماً، وقد فعلت الأنظمة المتعاقبة على سّدة الحكم في سوريا كل ما تستطيع فعله لتشويههم وتشييئهم وتسليع ثقافتهم، والأخطر والأسوأ، تعريبهم بكلّ الوسائل، وإن لم تنجح المحاولات، لكن آثارها ونتائجها ستبقى تظهر في كلّ محطةٍ حواريّة.

والثاني قومي كُردستاني كامتدادٍ تاريخي ماضوي بعيد، يُعيد العقل الكردي إلى هاجس حقوقه السياسيّة متكئاً على حماية إرثه اللغوي خارج حدود سوريا، وهذه الأخيرة مهدودة الحدود، مستعدّة لاستخدامات جديدة. اليوم وضمن قرينةٍ مشابهة، هل بمقدور الأدب الكردي في سوريا الاشتغال على شيءٍ جديدٍ حيال ما يعيشه من هامش حرية الكتابة الأدبيّة؟

المشكلة الثانية: الأدب الكردي مليء بالمضامين السياسيّة
يعاني الأدب الكردي من نُدرة خلوّه من مضامين سياسيّة، بعكس الآداب الكبيرة التي تشهد عكس ذلك، وهي تميل لأن تكون شأناً فكرياً على مختلف الصُعد والمستويات كأدب العائلة، الزواج، الحب، العلاقات، الفنّ...إلخ/ وعلى تماسٍ مباشر بشؤونٍ أخرى ليس أقلّ منها، حيث يمتاز الأدب المتمتع بالشغف والرغبة في القراءة باستخدام الوسط الاجتماعي كمحيطٍ وثقافةٍ وخلفيّة، لحدّ لا يكون فيه أيّ من تلك الشؤون السياسيّة ضرورياً للتواجد، حيث يكون الإنسان الفردي أكثر ضرورة، حينما يُستحال عدم أخذ مكانة الفرد بالاعتبارات على مستوى عالٍ من الدقة في إعادة هيكلة الفكر والثقافة.

بينما يكون الأدب الخاص بالأقليّات، بحسب تعبير كافكا، يختلف عن ذلك تماماً. حيث يكون الأدب الفعّال –للأقليات- هو المستقلّ عن كلّ شيء فردي ويتصل مباشرةً بالسياسة. وهو على صعيد الثروات الفكريّة ربما يتعلق بنوعية تفكير أبناء الأقليّات وعلاقتهم مع أبناء الأكثريّة، بعد تغيير نمط الأفكار والآداب والثقافة والتطوّر اللغوي، في قضية اللغة الأدبيّة والشراكة على صعيد استخدام تنوّعها وتعدّدها في سوريا، من كرديّة وعربيّة وسريانيّة، هو اختلاط للشأن الفردي مع السياسي بمزيد من الهدوء.

والأنجع هو الوصول إلى فصل الأدب عن السياسة، لكي تضع كلّ لغةٍ كتلةً من شؤون الأدب مع لغة أخرى مماثلة، والحال كهذه تصل إلى فصل الخلاف السياسي عن الحقوق الطبيعيّة اللغويّة والثقافيّة بل وعدم شمولها بالتجاذبات السياسيّة. وربما أمكننا القول إن صورة الأدب العربي في سوريا لم تتجاسر على ذاتها لتشمل قضايا الآخر ولو بشيء من النسبية، أو بالحدّ الأدنى على الأقل. واليوم لم تعد القضية كيفية عيش المواطنين السوريين معاً بمقدار كيفية البحث عن قاسمٍ مشتركٍ جديد بين الأجيال الجديدة، التي تشرّبت موروث الإلغاء والنفي وهجر الفنّي والابتعاد عن المختلف.

494